تنفيذ الأحكام القضائية الصادرة في مجال نزع الملكية لأجل المنفعة العامة
رسالة لنيل شهادة الماستر في القانون الخاص
إعداد الباحث
وليد الداودي
تحتاج الدولة لتنفيذ برامجها وسياساتها العمرانية في مختلف المجالات إلى عقارات تفرغ فيها مشاريعها المختلفة، وفي سعيها إلى تملك هذه العقارات تصطدم بمجموعة من العقبات من قبيل رفض الملاك التنازل عنها أو التراضي بشأنها.
ولما كانت الدولة ليس أمامها إلا أن تنفذ مشاريعها تطبيقا لمبدأ تغليب الصالح العام على الصالح الخاص، فإنه لم يكن أمامها سوى سن تشريع يخول لها الحق في نزع ملكية الأراضي التي تحتاجها جبرا من أصحابها.
وتعتبر مسطرة نزع الملكية أخطر إجراء يتعرض له الملاك، لكونه يصيب حق الملكية الذي يعد من أقدس الحقوق المقررة للأفراد، هذا الحق الذي اهتمت به معظم الدساتير والتشريعات في العالم بالنص على احترامه وحمايته واعتباره من الحقوق الطبيعية للفرد، فقد جاء في المادة 17 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواطن الصادر سنة 1789 بأن: “حق الملكية مقدس، ولا يمكن أن يحرم أي أحد منه إلا إذا فرضت ذلك قطعا الضرورة العامة وشرط تعويض عادل ومسبق”.
الإشكالات القانونية والعملية في المجال الضريبي
كما أن معظم الدساتير والتشريعات في العالم اهتمت بهذا الحق، وفي هذا الإطار نص الفصل 35 من الدستور المغربي لسنة 2011 على ما يلي: “يضمن القانون حق الملكية، ويمكن الحد من نطاقها وممارستها بموجب القانون، إذا اقتضت ذلك متطلبات التنمية الاقتصادية والاجتماعية للبلاد، ولا يمكن نزع الملكية إلا في الحالات ووفق الإجراءات التي ينص عليها القانون”.
كما نصت المادة 23 من مدونة الحقوق العينية على أنه “لا يحرم أحد من ملكه إلا في الأحوال التي يقررها القانون. لا تنزع ملكية أحد إلا لأجل المنفعة العامة ووفق الإجراءات التي ينص عليها القانون، ومقابل تعويض مناسب”.
وبالتالي فإن المشرع المغربي قد أحاط حق الملكية الخاصة بصيانته ونص عليه في الدستور، فجعل هذه الملكية مضمونة، غير أنه في مقابل ذلك أجاز للدولة امتلاك العقارات من أجل تسخيرها في اتجاه يخدم متطلباتها الرامية إلى تحقيق المنفعة العامة، ومن بين الامتيازات التي خولها المشرع المغربي لتحقيق هذه الغاية تلك المتعلقة بمسطرة نزع الملكية لأجل المنفعة العامة.
ولعل إجراء نزع الملكية لأجل المنفعة العامة من أهم مصادر تملك الدولة ومؤسساتها للعقارات التي قد تكون في حاجة إليها سواء تعلق الأمر بالملك العام أو الخاص على أن هذا الأخير يمثل امتياز استثنائيا ينطوي عليه من مساس بحق الملكية الخاصة، مما جعل المشرعين في معظم الدول التي تحمي الملكية الخاصة يجيزونه في حدود معينة ووفقا للإجراءات يتولى تحديدها القانون.
فبالاطلاع على الترسانة القانونية المغربية، نجد هناك النص الخاص الذي ينظم مسطرة نزع الملكية لأجل المنفعة العامة والمتمثلة في القانون رقم 7.81 الصادر في 6 مايو 1982، حيث حصن المشرع من خلاله إجراءات نزع الملكية لأجل المنفعة العامة بضمانات قانونية لما فيه من حماية لحق ملكية الأشخاص، ومن أهم هذه الإجراءات نجد التصريح بالمنفعة العامة، و كذا إجراء أبحاث ميدانية قبل سلوك الإجراءات الإدارية لنزع الملكية، ثم الضمانات القضائية ومؤداها أن العقار المنزوعة ملكيته لا ينتقل في اسم السلطة نازعة الملكية إلا استنادا إلى حكم قضائي وبمقابل تعويض محكوم به، وقد حدد هذا القانون كيفية إعلان المنفعة العامة والإجراءات الواجب اتباعها من لدن الإدارة نازعة الملكية في سبيل ذلك، قبل رفع دعوى الإذن بالحيازة ودعوى نقل الملكية تحت طائلة عدم وإعادة تلك الإجراءات من جديد، كما حدد نفس القانون آثار المترتبة عن الإعلان عن المنفعة العامة، وبسط مختلف الإجراءات القانونية الواجب اتباعها من طرف القضاء المختص والمعنيين بالأمر، وحدد أيضا كيفية تقدير التعويض عن نزع الملكية.
حدود مراقبة النيابة العامة للمهن القانونية والقضائية
وبالتالي إذا كانت المرحلة الإدارية تشكل مرحلة تمهيدية في مسطرة نزع الملكية، فإن المرحلة القضائية هي المرحلة التكميلية لهذه المسطرة حيث تبتدئ بإيداع مقالين من طرف الإدارة نازعة الملكية، الأول يرمي إلى استصدار أمر بالحيازة والثاني يهدف إلى الحكم بنقل الملكية وتحديد التعويض.
وتشكل المنازعات المتعلقة بنزع الملكية من أجل المنفعة العامة المجال الخصب لتدخل القضاء الإداري بمختلف مستوياته، بل إن اختصاص النظر في الدعاوى المتعلقة بنزع الملكية من أجل المنفعة العامة أصبح يتقاسمه كل من قضاء الإلغاء والقضاء الشامل والقضاء الاستعجالي الإداري وذلك حسب مجال كل واحد منهم، فالأول يختص بالنظر في طلبات إلغاء المقرر المعلن عن المنفعة العامة ومقرر التخلي بسبب تجاوز السلطة، ويختص الثاني بالبث في طلبات الرامية إلى الحكم بنقل الملكية وتحديد التعويضات، بينما يختص الثالث بالنظر في الطلبات الرامية إلى الإذن بالحيازة المؤقتة للعقار.
وبالنظر إلى ما تطرحه مسطرة نزع الملكية من نزاعات على أرض الواقع، فإن الإشكال الأساسي يتجلى في مرحلة تنفيذ تلك الأحكام القضائية المتعلقة بنزع الملكية من أجل المنفعة العامة وذلك من خلال تمكين المنزوعة ملكيتهم من التعويض المحكوم به.
ولعل تنفيذ الأحكام القضائية هو لحمة الحكم وسداه، ويمثل أهم مرحلة من مراحل التقاضي التي غالبا ما تكون عسيرة ومضنية وطويلة الأمد، فبدون تنفيذ تصير الأحكام عديمة الجدوى والفعالية ويفقد الناس ثقتهم في القضاء، ويدب اليأس في نفوسهم وتعم الفوضى وينعدم الأمن والاستقرار داخل المجتمع.
فإذا كان القضاء لا يجد صعوبة في تنفيذ الأحكام الصادرة بين الأشخاص العاديين نظرا لسلطته الواسعة في هذا المجال، فإن الأمر يختلف حينما يكون أحد طرفي النزاع شخصا من أشخاص القانون العام، بل وبالضبط عندما يكون الحكم صادر ضد هذا الأخير.
فالأحكام القضائية المتعلقة -بنزع الملكية لأجل المنفعة العامة- كسائر الأحكام القطعية لها حجية الشيء المقضي به، وتعتبر عنوانا للحقيقة، والامتناع عن تنفيذها من لدن الإدارة التي صدرت ضدها لا يعتبر مسا بحق الأشخاص الصادرة لفائدتهم فحسب، بل أكثر من ذلك يمثل إهدار لقوة الأحكام وتحقيرا للسلطة القضائية التي أصدرتها وانتقاصا من هيبتها.
لذلك حاول المشرع المغربي تدارك هذا الوضع من خلال سن قواعد أساسية للتنفيذ في ظهير 1974 بالمصادقة على نص قانون المسطرة المدنية، وتدعيم هذه المقتضيات بالقانون رقم 41.80 المتعلق بإحداث هيئة لأعوان القضائيين الذي ثم إلغاؤه بموجب القانون رقم 03/81 المتعلق بالمفوضين القضائيين ثم إحداث مؤسسة قاضي التنفيذ بموجب القانون رقم 03/72.
كما شكل صدور القانون رقم 41.90 المحدث للمحاكم الإدارية أهم الضمانات التي خولها المشرع للمواطن لحماية حقوقه في مواجهة السلطة نازعة الملكية باعتبارها إدارة قوية متمتعة بامتيازات السلطة العامة والتي أصبحت مقاضاتها شيئا بديهيا، ترسيخا لمبدأ المشروعية وسيادة القانون، وقد ساهمت هذه المحاكم مند تأسيسها سنة 1994 في ترسيخ العديد من الاجتهادات والمبادئ في إطار تصديها لتجاوزات السلطات الإدارية وتعويضها للأفراد المتضررين من أعمالها ونشاطاتها.
نزع الملكية بين النص الدستوري والقانون 7.81
ليعرف بعد ذلك دستور 2011 مستجدات فيما يخص مبدأ إلزامية تنفيذ الأحكام القضائية النهائية، حيث ارتقى إلى مصاف الحقوق الدستورية، وذلك من خلال الفصل 126 والذي جاء فيه “الأحكام النهائية الصادرة عن القضاء ملزمة للجميع، يجب على السلطات العمومية تقديم المساعدة اللازمة أثناء المحاكمة، إذ أصدر الأمر إليها بذلك، ويجب عليها المساعدة على تنفيذ الأحكام”.
ناهيك عن إحداث مؤسسة وطنية مستقلة بمقتضى الفصل 162 من نفس الدستور –مؤسسة وسيط المملكة- تتولى مهمة الدفاع عن الحقوق في نطاق العلاقات بين الإدارة والمواطنين والإسهام في ترسيخ سيادة القانون.
هذا التطور أدى إلى إصدار ميثاق إصلاح منظومة العدالة سنة 2013 الذي شخص واقع منظومة العدالة، وطرح بعض الحلول لتجاوز الصعوبات والعراقيل التي تعترض التنفيذ في مواجهة أشخاص القانون العام في توصياته وأهدافه الاستراتيجية الرئيسية والفرعية والتي تم تنزيلها في مشروع قانون المسطرة المدنية.
كما أن للمؤسسة الملكية الفضل الكبير في تسليط الضوء على صعوبة تنفيذ الأحكام خصوصا في مجال نزع الملكية لأجل المنفعة العامة والتي تواترت الخطب الملكية بشأنها أهمها خطاب الملك محمد السادس في افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الأولى من الولاية التشريعية العاشرة حيث جاء فيه ما يلي:
“… فالعديد من المواطنين يتشكلون من قضايا نزع الملكية، لأن الدولة لم تقم بتعويضهم عن أملاكهم أو لتأخير عملية التعويض لسنوات طويلة تضر بمصالحهم، أو لأن مبلغ التعويض أقل من ثمن البيع المعمول به وغيرها من الأسباب.
… كما أن المواطن يشكي بكثرة من طول وتعقيد المساطر القضائية، ومن عدم تنفيذ الأحكام، وخاصة في مواجهة الإدارة.
فمن غير المفهوم أن تسلب الإدارة للمواطن حقوقه، وهي التي يجب أن تصونها وتدافع عنها، وكيف لمسؤول أن يعرقل حصوله عليها وقد صدر بشأنها حكم قضائي نهائي؟“.
كما لا يخفى الدور الذي يلعبه القضاء الإداري باتخاذه عدة مواقف وهو في صراع مع الإدارة، مرة لتحسيسها بضرورة التقيد بقوة الشيء المقضي به، ومرة بتوجيه إشارات تبين من خلالها بأنه غير راض على موقفها، وأحيانا بتهديدها عن طريق الغرامة التهديدية، وأخيرا بالحجز على أموالها وإصدار أمر بتحويل المبالغ المحجوزة إلى المنزوعة ملكيتهم وتمكينهم من حقوقهم.
أهمية الموضوع:
مما لاشك فيه، أن موضوع “تنفيذ الأحكام القضائية الصادرة في مجال نزع الملكية لأجل المنفعة العامة” يكتسي أهمية كبرى ليس من الجانب القانوني فحسب وإنما تظهر أهميته في الجانب العملي كذلك، لكونه ترجمة حقيقة للأحكام القضائية المتعلقة بنزع الملكية لأجل المنفعة العامة، فما الفائدة من بقاء تلك الأحكام حبرا على ورق؟
ولعل هذه الأهمية تبرز في مجموعة من النقط، لعل أهمها كثرة النزاعات حول هذا الموضوع، حيث تضيع حقوق المنزوعة ملكيتهم من جراء تماطل السلطة نازعة الملكية في تنفيذ الأحكام الصادرة في مواجهتها، أو تجاهلها لذلك بشكل تام، ناهيك عن الفراغ التشريعي فيما يخص الحلول والوسائل القانونية الناجعة لحل إشكالية عدم تنفيذ الإدارة للأحكام القضائية الصادر ضدها.
كما أن هذا الموضوع يأتي في سياق اهتمامات الدولة بإصلاح الإدارة، وتحسين علاقتها بالمواطن، وإرساء مقومات حكامة جيدة والذي يعتبر تنفيذ للأحكام القضائية الصادرة ضد الإدارة من أبرز تجلياته.
كما أن ظاهرة امتناع الإدارة بصفة عامة عن تنفيذ الأحكام المدانة بها أصبحت تستقطب بشكل متزايد اهتمام الباحثين والدارسين في كتاباتهم العلمية وأيضا الاجتهاد القضائي، فكل واحد من موقعه يستنكر هذه الوضعية ويقترح السبل الكفيلة لتجاوز هذه الصعوبات التي تعرض عملية التنفيذ.
صعوبات الموضوع:
ولعل إنجاز موضوع الدراسة “تنفيذ الأحكام القضائية الصادرة في مجال نزع الملكية الأجل المنفعة العامة” لم يكن بالشيء اليسير إذ واجهتنا مجموعة من الصعوبات وهي:
-
صعوبة الحصول على المعطيات الأولية والضرورية المراد توظيفها في هذا البحث ويتعلق الأمر بالقرارات والأحكام القضائية وكذا على بعض الاتفاقيات المبرمة في هذا الشأن؛
-
تعقيد المسطرة وتشابكها بخصوص تمكين الطلبة الباحثين من الحصول على القرارات الصادرة عن محكمة النقض؛
-
قلة المراجع الفقهية المتعلقة بتنفيذ الأحكام القضائية الصادرة ضد الإدارة عموما.
إشكالية الموضوع:
انطلاقا مما سبق، ننتقل لدراسة إشكالية موضوع تنفيذ الأحكام القضائية الصادرة في مجال نزع الملكية لأجل المنفعة العامة، والتي قد تراءت لنا على الشكل التالي:
إلى أي حد ساهمت المنظومة القانونية والقضائية من تجاوز الصعوبات التي تواجه عملية تنفيذ الأحكام القضائية الصادرة في مجال نزع الملكية من أجل المنفعة العامة؟
هذه الإشكالية الرئيسية قد لا تكتمل أبعادها دون طرح بعض الأسئلة التفصيلية للإحاطة بالجوانب المختلفة للموضوع، وذلك من قبيل:
-
كيف يتعامل القضاء مع عملية تنفيذ الأحكام القضائية الصادرة في ميدان نزع الملكية الأجل المنفعة العامة؟
-
ما هي أهم الصعوبات التي تعترض عملية تنفيذ الأحكام القضائية الصادرة في مواجهة الإدارة نازعة الملكية؟
-
ما هي الوسائل القانونية الممكنة لإجبار الإدارة نازعة الملكية على تنفيذ الأحكام القضائية المدانة بها؟
-
هل هناك ضمانات لتنفيذ الأحكام القضائية الصادرة ضد الإدارة نازعة الملكية، خارج الضمانات القضائية؟